المقالات

خطاب الإستقلال لـ 34: سردية الإنكار وهيمنة الذات

بقلم: إبراهيم قارو

في الذكرى الرابعة والثلاثين لاستقلال إرتريا لم يكن ظهور الرئيس أسياس أفورقي بخطابه مجرد فعل احتفالي مكرر بل شكل اطاراً جديداً يكشف عن البنية العميقة لخطاب السلطة، خطاب ينكر الواقع بصورة منهجية ويعيد انتاج نفسه من خلال سردية مرتبكة تتهرب من اللحظة وتعالج الازمات عبر اغراقها في تعميمات مصطنعة. لقد عكس الخطاب أزمة الدولة الإرترية لا فقط بما احتواه بل من حيث ما تم تجاهله عمداً فكأن هذه الذكرى أصبحت دليلاً على انهيار العلاقة بين النظام الحاكم والمجتمع وتأكيداً على غياب أي افق للمصالحة الوطنية او بناء دولة متماسكة.

ظهر الخطاب كوثيقة خطابية تنتمي إلى التقاليد الشمولية العتيقة، حيث تذوب فيها فكرة الدولة في صورة “القائد المؤسس” ويتحول الاستقلال من لحظة تأسيس لحقوق المواطنة إلى مرحلة احتكار للسردية والإنجاز. لم يقدم افورقي نفسه كرئيس لدولة مازالت تحاول شق طريقها بعد عقود من العزلة والانغلاق، بل قدم نفسه كحاكم مستبد يتحدث عن الفلسفة والعلوم والتكنولوجيا، بلغة تجريدية أقرب إلى خطاب الهزيمة منفصلاً تماماً عن معاناة الناس اليومية، ومليئاً باشارات ذهنية غير مقنعة طرحت كواجب بلاغي فارغ.

تركيز الخطاب للحديث على موضوعات علمية وفكرية لاتمت بصلة الى الواقع مقابل دقائق معدودة فقط خصصت عن الشأن الإرتري الداخلي، لم يكن أمراً اعتباطياً بل يعكس ذهنية تتعمد الهروب من مواجهة الحقائق وتُمعن في تزييف الأولويات. فخطاب افورقي لم يتطرق الى الازمات الجوهرية التي تعاني منها البلاد من هروب للشباب والخدمة العسكرية دون سقف زمني والاقتصاد المتهالك وانهيار المؤسسات وغياب الحريات. خلافاً لذلك تم تمرير شعارات فضفاضة عن انجازات بلا سند واقعي أو تفسير منهجي كمحاولة منه لتجاوز عتبة الفشل وايهام الناس بشعور زائف بالاستقرار.

على المستوى التركيب البنيوي، يعكس الخطاب عن نمط مأزوم يقوم على انكار المسؤولية الشخصية وبناء سردية مقاومة تتبنى نظرية المؤامرة الخارجية كإطار تفسيري وحيد. لقد أعاد افورقي   مفردات “الحصار” و”العدو الخارجي” و”المؤامرات”، التي لم تعد قادرة على تبرير لاخفاقات أو تأجيل لاستحقاقات.  محاولة التغاضي عن الداخل وإعادة تقديم الخطاب في سياق دفاعي موجه نحو الخارج يكشف عن مأزق سلطة فقدت ثقتها بنفسها وترى في أي نقد تهديداً وجودياً واي اعتراف يعد انهزاماً

أما على المستوى الرمزي، فقد غاب من الخطاب كلياً أي تمثيل لمفهوم “الدولة” كمؤسسات أو كإرادة جامعة. لم يتم ذكر الحكومة، او الجهاز الإداري، أو الشعب إلا بصيغة تابعة. وبالتالي تم التأكيد مجدداً على مركزية الفرد القائد مقابل تهميش كامل للدولة الوطنية. وهذا بدوره يعيدنا الى بنية جديدة من الاستبداد تتمتع بسلطة بلا رقابة، حكم بلا عقد اجتماعي، وزعيم يتحدث باسم “الدولة” دون أن يُعبر عنها. لا يؤدي هذا النوع من الخطابات السلطوية الى بناء شرعية سياسية راسخة بل يعمق الاستبداد. فحين تستبدل الحقائق بالإنكار والمواطنة بالولاء الشخصي وتنعدم التعددية لصالح خطاب احادي مغلق عندها تتفكك الدولة من الداخل وتفقد مناعتها الذاتية وهذا هو حال الدولة الارترية منذ ثلاث عقود وحتى اليوم.

هذا الخطاب الذي يرفض الاعتراف بإمكانية التغيير هو تجسيد لحالة الجمود الذهني التي يعيشه افورقي فلا يرى في التغيير الا تهديداً وجودياً له فهو يرفض الاعتراف باي تغيير او التفكير فيه حتى بعد رحيله.

من هنا فإن على قوى التغيير الإرترية مسئولية تاريخية غير قابلة للتأجيل. لا يمكنها بعد اليوم أن تكتفي بتفكيك خطاب النظام والانشغال بردود الفعل فالمرحلة الراهنة تتسم بتداخلات غير مسبوقة بين أزمات داخلية متفاقمة وتحولات إقليمية عميقة كحالة السيولة السياسية التي تعيشها المنطقة وتغير موازين القوة في القرن الافريقي وتبدل أولويات الفاعلين الإقليميين والدوليين بما في ذلك السودان واثيوبيا والبحر الأحمر.

هذا الواقع يفرض على قوى التغيير والمعارضة ان تتجاوز دائرة التشظى الخبيثة نحو تأسيس مشروع سياسي جامع يقوم على أسس موضوعية وتحالف اجتماعي واسع يقدم رؤية واضحة لانتقال سياسي يتجاوز واقع التسلط الفردي ويؤسس لشرعية حديثة تقوم على التعددية وتداول السلطة. خطاب الذكرى 34 للاستقلال يعد وثيقة ضمنية تعكس ماذق النظام وادراكه المتأخر بانسداد الأفق وافتقاده لأي تصور إصلاحي فهو يحاول التلويح بتصعيد جديد في الإقليم القائم على التهديد والمواجهة وهي استراتيجية النظام للهروب الى الامام في ظل تآكل الداخل وسؤال الشرعية الذي يحاصره من كل الاتجاهات.

 هذا الأمر يضاعف من مسئولية قوى المعارضة الارترية بأن تقوم ببلورة بديل واقعي متماسك يتجاوز النظام ويخاطب الشعب ويؤسس لمشروع انقاذ وطني غير خاضع لحسابات الخارج ولا لمعادلات الاستبداد والاقصاء الداخلي. فاذا ارادت قوى التغيير والمعارضة الارترية ان تكون حاضرة وفاعلة في صناعة مستقبل البلاد فهي مطالبة بإعادة بناء سرديتها ولا تقف عند حدود المظلومية.

ان انتزاع الشرعية لا يكون الا عبر عمل تراكمي واستراتيجية تواصل حقيقية مع الداخل فالقراءة السياسة الدقيقة لخطاب افورقي تكشف عن نظام يعيش لحظة فقدان الاتجاه ويراهن على تأييد السلطة بالقوة ويعول على الزمن دون ان يعي بان الوقت بات خصما لا حليفا له. فاذا لم تتمكن المعارضة الارترية التحول الى فاعل تاريخي في هذه اللحظة فإنها ستخصر فرصة تاريخية لا تعوض. ان خطاب الاستقلال ال 34 لم يكن مناسبة احتفالية سنوية فقط بل كان مرآة تعكس عمق الازمة البنيوية التي يعاني منها النظام ومؤسسات الدولة الارترية حيث ارتبطت السلطة بالفرد وأقصي المجتمع من الدولة ودفنت الاستحقاقات الوطنية وراء شعارات لا معنى لها.

فاذا كان هذا واقع النظام فان مسئولية التغيير تقع على القوى الوطنية التي لا تملك ترف الانتظار فإما ان تتقدم بمشروع سياسي جامع ينقذ ما تبقى من الكيان الوطني والا فان البلاد والعباد سيكونان رهينة لحالة انسداد تاريخي لن تنتج سوى مزيد من التآكل والانهيار.

27/05/2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى