المقالات

الفاشر … لحظة الحقيقة السودانية: وحدة وطن أم بداية الانهيار

بقلم الاستاذ: ابراهيم قارو

مدخل

في لحظة دقيقة من التاريخ الجغرافي والسياسي للسودان وفي ظل هشاشة وطنية غير مسبوقة لا تظهر الفاشر كساحة تقليدية للمواجهات العسكرية فحسب، بل كحاضنة رمزية للصراع الوجودي حول وحدة الدولة السودانية وسيادتها واستمراريتها. فالمعارك الدائرة هناك ليست مجرد اشتباكات عابرة، بل تمثل ذروة تراكمات من التناقضات البنيوية والأزمات المزمنة التي لطالما أعاقت المشروع الوطني بدءًا من الانهيار السياسي والتشظي الجهوي وصولاً إلى تآكل سلطة الدولة المركزية.

مدينة الفاشر السودانية
مدينة الفاشر السودانية

إن معركة الفاشر ليست مجرد حلقة في مسلسل الحرب الأهلية المتصاعدة بل هي الذروة التي تتكثف عندها كل الأزمات: المركز والهامش الجيش والمليشيات الدولة والفوضى السيادة والتبعية وكلها تتصارع الآن في ميدان واحد ليُعاد تعريف السودان إما كدولة قابلة للحياة أو ككيان آيل للانهيار. وفي هذه اللحظة التاريخية لا يمكن النظر إلى الفاشر كحدث منفصل بل كحالة سياسية تعكس ما تبقى من المشروع الوطني السوداني الذي تتنازعه اليوم سرديتان: واحدة تُنادي بإعادة بناء الدولة على أساس السيادة والوحدة وأخرى تدفع نحو التشظي والتفكك تحت لافتات خادعة وشعارات انتقائية ولو على أنقاض الدولة .

السقوط الأخلاقي للقوى المدنية تحت شعار “لا للحرب”

من أكثر ما يكشف عمق التردي في المشهد السياسي السوداني هو السلوك الانتهازي لبعض القوى المدنية التي تتخفّى خلف شعار “لا للحرب” دون أن تملك شجاعة تسمية المعتدي والمجرم والمتواطئ. هذا الخطاب الذي يدّعي الحياد الأخلاقي، يتحول فعليًا إلى شريك ناعم في مشروع الانهيار الوطني حين يساوي بين الضحية والجلاد، ويغض الطرف عن جرائم المليشيات التي تذبح المدن وتحاصر السكان، وكأن الدولة نفسها لم تعد جديرة بالدفاع.

لقد كشفت هذه المرحلة أن بعض تلك القوى لم تكن يوماً جزءاً من مشروع بناء الدولة بل رأت فيها منصة تفاوض على مكاسب آنية، تُخلي مسؤوليتها الوطنية في لحظة كان يُفترض فيها أن تعيد ترتيب أولوياتها لتقف مع الدولة ضد الفوضى ومع السيادة ضد الارتزاق السياسي. لكنها آثرت الانسحاب إلى منطقة رمادية يُروّج فيها السلام كسلعة دعائية لا كمشروع تحوّلي ويُغلف فيها الحياد كغطاء للمراوغة الأخلاقية والتواطؤ مع قوى الخراب.

تواطؤ الجوار: مؤامرة منسقة لتفتيت السودان

وعلى الجبهة الإقليمية فإن مواقف بعض دول الجوار السوداني لم تعد تقف عند حد الإخفاق في الوساطة بل انزلقت إلى موقع التورط الكامل في تقويض السودان. من جنوب السودان التي تحوّلت إلى قاعدة خلفية لتمرير السلاح إلى تشاد التي فُتحت أراضيها لتدفقات المرتزقة وصولاً إلى أوغندا وكينيا اللتين تؤديان أدواراً دبلوماسية مموّهة لصالح أجندات دولية تُغذّي الصراع وتُبرّره.

لكن الدور الأخطر يظل ما تقوم به الإمارات العربية المتحدة التي لم تكتفِ بتمويل وتسليح المليشيات بل تجاوزت إلى التنسيق المكشوف مع أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في السودان بما يخدم مصالح الهيمنة الإقليمية لا الأمن والاستقرار. هذا الانخراط الإماراتي لا يأتي من فراغ بل يُعبّر عن رؤية استراتيجية لتدمير أي إمكانية لقيام دولة مركزية في السودان واستبدالها بجزر من الكيانات الهشة القابلة للابتزاز والتوجيه. هكذا وبتواطؤ معلن ومقنّع تُنتهك السيادة السودانية ليس فقط عبر فوهات البنادق بل من خلال “هندسة الفوضى” التي تُدار من الخارج وتُنفّذ عبر أمراء حرب وسماسرة سياسة داخلية فقدوا كل صلة بالمصلحة الوطنية.

دول جوار السودان تتفق على إنشاء آلية وزارية لوقف القتال وحل الأزمة
دول جوار السودان تتفق على إنشاء آلية وزارية لوقف القتال وحل الأزمة

الفاشر : نداء الوطن الأخير

وسط هذا المشهد الكارثي تبرز الفاشر كجدار الصد الأخير لا عن المدينة فقط بل عن الدولة نفسها. سقوطها ليس مجرد هزيمة عسكرية، بل إعلان رمزي عن تفكك الكيان السوداني بوصفه دولة ذات سيادة وعن انتصار مشروع التشظي الذي لم يعد يهدد الأطراف فقط، بل يزحف بثبات نحو المركز.

لكن في صمود الفاشر رغم كل أدوات الحصار والدمار تلوح إمكانية مغايرة:

أن تكون هذه المدينة، بكل ما تمثله من عمق تاريخي وإرادة مقاومة بداية التحوّل إلى مشروع وطني جديد يعيد تعريف الأولويات وينهض من بين الأنقاض بمشروع مقاومة شاملة لا تُواجه السلاح بالسلاح فحسب بل بالفكرة والكلمة والخطاب والتعبئة الواعية.

إن المعركة في الفاشر تفرض على الجميع خطابًا جديدًا يخرج من أسر التبريرات والرماديات ويتأسس على وضوح الرؤية: المعركة هي معركة بقاء والسيادة ليست ترفاً سياسياً بل شرط الوجود الوطني والمليشيات ليست طرفاً تفاوضياً بل أدوات للهدم والمجتمع الدولي ليس وسيطاً نزيهاً بل شريكاً في التواطؤ إن لم يُجبر على تغيير مواقفه.

خاتمة الفاشر… اختبار الإرادة الوطنية الأخيرة

ليست الفاشر مجرد مدينة تقاوم الحصار بل هي بوابة الحقيقة السودانية التي لا تقبل التأجيل ولا النفاق السياسي. من صمودها أو سقوطها سيتحدد شكل السودان القادم: هل هو وطن يُعاد بناؤه بإرادة السودانيين، أم كيان مفكك تُعاد صياغته بأيدي الخارج؟

وفي لحظة تتكثف فيها المؤامرة وتتشابك فيها خيوط الداخل والخارج يصبح الحياد خيانة والصمت جريمة والرمادية تواطؤًا. لم تعد القضية تحتمل خطاب الإنشاء ولا تحاليل النُخب العابرة بل تحتاج إلى فعل وطني يعيد بناء الوعي الجمعي على قاعدة أن المعركة الآن ليست فقط بين أطراف النزاع بل بين فكرة الدولة وفكرة الفوضى.

الفاشر اليوم هي المعيار. كل موقف وكل خطاب وكل تحالف يجب أن يُقاس على أسس أساسي ووحيد:

  • هل يحمي وحدة السودان؟
  • هل يصون سيادته؟
  • هل يعيد قراره إلى الداخل؟

ما لم تُجب القوى السياسية والاجتماعية والثقافية على هذه الأسئلة بوضوح وحسم، فإنها تكون شريكة – بصمتها أو فعلها – في السقوط الكبير. أما أولئك الذين يرون في “اللا حرب” ملاذاً للهروب من الواجب الوطني فعليهم أن يدركوا أن لا سلام بدون دولة ولا دولة بدون سيادة ولا سيادة بدون مقاومة. الفاشر ليست النهاية بل الفرصة الأخيرة لتصحيح المسار. السودان لا يزال يملك أدوات النهوض لكنه بحاجة إلى إرادة إلى خطاب إلى مشروع يعيد توحيد ما تفرّق.

وما لم تُكتب هذه اللحظة بمداد الدم والشجاعة والوضوح فستُكتب بسقوط وطن انتظر طويلاً أن يُنقذ نفسه… ولم يفعل.

بقلم الاستاذ: ابراهيم قارو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى