مدخل: الدور المصري المتجدد في سياق التحولات الإقليمية العميقة
في ظل التحولات البنيوية المتسارعة التي تشهدها بؤرة التفاعلات الجيوسياسية في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر والتي تتسم بتداخل معقد للمصالح وتشابك مع أجندات إقليمية ودولية. تبرز الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي في الثالث والعشرين من شهر أبريل الجاري كحدث ذي مغزى استراتيجي يتجاوز البروتوكولات الدبلوماسية المعهودة للزيارات الرسمية.
تأتي هذه الزيارة في سياق ديناميكيات إقليمية بالغة التعقيد تتصدرها حدة التنافس على النفوذ والسيطرة على الموانئ والممرات البحرية ذات الأهمية الحيوية واستمرار التداعيات الناجمة عن الحرب المستعرة في السودان واستمرار حالة الجمود التي تلف ملف سد النهضة الإثيوبي فضلاً عن تضارب الأدوار وتنازع المصالح بين مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين.
في غمرة هذا المشهد الإقليمي المضطرب تسعى القاهرة إلى إعادة صياغة دورها التاريخي كفاعل محوري في المنطقة ساعية إلى استعادة زمام المبادرة الاستراتيجية وتعزيز نفوذها الإقليمي من خلال تبني مقاربة شمولية ومتعددة الأوجه. وعليه فإن استيعاب الأبعاد الاستراتيجية لزيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي يستلزم وضعها في إطار الهواجس الاستراتيجية المصرية الأوسع والتي تتصدر أولوياتها قضايا الأمن المائي وتأمين خطوط التجارة والملاحة الدولية وتأثير السيطرة على البنية التحتية للموانئ في القارة الأفريقية.

وفي هذا السياق تكتسب الإشارات الضمنية والمباشرة الموجهة إلى كل من إرتريا وإثيوبيا أهمية قصوى في تحليل هذه الزيارة فإرتريا التي تمثل حليفاً تقليدياً للقاهرة تتبوأ موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية في معادلة الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر بينما تمثل إثيوبيا بما يكتنف ملف سد النهضة من تعقيدات وما تتطلع إليه من توسيع لنفوذها عبر الممرات التجارية خصماً جيو سياسياً مباشراً لمصر. وتسعى القاهرة من خلال تحركاتها الدبلوماسية المحسوبة إلى تحقيق توازن دقيق بين هذين البلدين ضمن قوس استراتيجي يهدف إلى ترسيخ مكانتها كقوة إقليمية قادرة على تحقيق الاستقرار وإعادة تنظيم شبكة تحالفاتها على أسس أكثر صلابة واستدامة.
بناءً على ما تقدم من تحليل يمكن الاستنتاج بأن زيارة جيبوتي قد انطوت على أهداف متداخلة تصب في صميم الاستراتيجية المصرية في منطقة شرق أفريقيا ليس فقط من خلال تعزيز أطر التعاون الثنائي بل أيضاً عبر توجيه رسائل واضحة وغير مباشرة قد تفتح آفاقاً جديدة لإعادة ترميم العلاقات بين جيبوتي وأسمرة في سياق إقليمي يشهد إعادة ترتيب معقدة للتفاعلات والمصالح.
إرتريا: مرتكز استراتيجي في ديناميكيات البحر الأحمر وتحولاته الإقليمية
تحظى دولة إرتريا بموقع جيوسياسي فريد في منظومة القرن الأفريقي حيث لا يقتصر موقعها الاستراتيجي على إشرافها المباشر على أحد أهم الشرايين المائية الحيوية في البحر الأحمر فحسب بل تمتد أهميتها لتشمل كونها نقطة ارتكاز جوهرية في البنية الأمنية والعسكرية لكل من القاهرة وأبو ظبي وتل أبيب كما أن طبيعة علاقاتها المعقدة والمتأرجحة مع إثيوبيا – التي شهدت دورات من الصراع والسلام ثم عودة التوتر – تضاعف من قيمتها الاستراتيجية في الحسابات الإقليمية المعقدة.
في هذا السياق الجيو- سياسي الحساس تحمل زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي دلالات غير مباشرة ولكنها ذات مغزى عميق بالنسبة لأسمرا. فهي تشير بوضوح إلى رغبة القاهرة في تفعيل الدور الإرتري في موازين القوى الأمنية والتأثيرية في منطقة البحر الأحمر وذلك في مواجهة تنامي النفوذ الإثيوبي المتصاعد كما تمثل هذه الزيارة إشارة ضمنية وهادئة لإعادة تموضع إرتريا ضمن معادلة إقليمية جديدة آخذة في التشكل.
وإرتريا التي تبنت لفترة طويلة سياسة اتسمت بالانكفاء السياسي والجيوستراتيجي تقف اليوم على مفترق طرق حاسم. فإما أن تنخرط بفاعلية في النسق الإقليمي الناشئ وما يحمله من فرص واعدة على الصعيدين السياسي والاقتصادي وإما أن تستمر في حسابات استراتيجية ضيقة قد تحول دون استثمارها الأمثل لموقعها الاستراتيجي الفريد في لحظة تاريخية تتزايد فيها أهمية السواحل والموانئ في خضم التنافس العالمي المحتدم. وترى القاهرة في أسمرا شريكاً استراتيجياً محتملاً يمكن استعادته ودمجه ضمن نطاق النفوذ العربي في منطقة البحر الأحمر شريطة أن تبدي إرتريا استعداداً جلياً لإعادة تقديم نفسها كدولة فاعلة ومؤثرة في المشهد الإقليمي بدلاً من الاكتفاء بدور المراقب المنعزل.
إثيوبيا: الحسابات الاستراتيجية وهواجس التحركات المصرية المتنامية
في المقابل تنظر أديس أبابا بعين الريبة والقلق المتزايد إلى مظاهر التمدد المصري في كل من جيبوتي وإرتريا بل وحتى في السودان الذي يشهد أوضاعاً بالغة الاضطراب. فمصر بدأت تقترب من العمق الاستراتيجي الإثيوبي من زوايا متعددة: عبر مسار الحوار المتعثر بشأن ملف سد النهضة وعبر تعميق العلاقات البحرية والاستثمارية مع جيبوتي ومنطقة بربرة وعبر توثيق التنسيق الاستراتيجي مع أسمرة.
من المنظور الإثيوبي تُقرأ التحركات المصرية الأخيرة كمحاولات ضمنية لتقويض الطموحات البحرية لأديس أبابا خاصة بعد الاتفاق المثير للجدل الذي أبرمته مع صوماليلاند وتنظر إليها القاهرة بدورها كتهديد مزدوج: يمس أمنها القومي بشكل مباشر ويقوض مكانتها ودورها المحوري في معادلة الأمن الإقليمي في منطقة البحر الأحمر.
وتدرك إثيوبيا تمام الإدراك أن مصر تتبنى استراتيجية “التحكم غير المباشر“، التي تتجنب المواجهة المباشرة لكنها تسعى في المقابل إلى بناء توازنات وتحالفات استراتيجية من شأنها إعادة تشكيل الخريطة الإقليمية وتقويض الطموحات الإثيوبية خاصة تلك المتعلقة بالوصول إلى البحر في ظل وضعها الجيوسياسي كدولة حبيسة.
إمكانات التقارب الإرتري-الجيبوتي: بوابة مصرية لإعادة التشبيك الإقليمي الاستراتيجي.
في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها منطقة القرن الأفريقي تبرز العلاقة بين إرتريا وجيبوتي كعنصر محوري ذي إمكانات كامنة لإعادة بناء الثقة وتعزيز التعاون ضمن مشهد إقليمي متجدد تتداخل فيه المصالح وتتسابق فيه القوى الإقليمية والدولية على إعادة التموضع وتأمين مصالحها. وتُشكل زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي بالتوازي مع إعادة تنشيط الدور المصري في منطقة البحر الأحمر فرصة سانحة ومناسبة لمثل هذا التنسيق الاستراتيجي الذي يمكن أن يستند إلى ثلاثة أبعاد رئيسية مترابطة ومتكاملة:
▀ أمن البحر الأحمر: تهديد مشترك ومصلحة استراتيجية متبادلة
يمثل ضمان أمن البحر الأحمر أولوية قصوى لكل من جيبوتي وإرتريا وهما دولتان تطلان على سواحل استراتيجية بالغة الأهمية وتواجهان تحديات أمنية متشابهة بدءاً من مخاطر القرصنة والتهريب المنظم وصولاً إلى التداعيات الأمنية للنزاع المستمر في اليمن. ويمكن لمصر في ضوء عودتها القوية إلى هذا المجال الحيوي أن تضطلع بدور الضامن والميسر لإرساء بنية أمنية إقليمية متينة تستند إلى مبدأ الدفاع الجماعي بما يعزز الاستقرار الإقليمي ويحد من التدخلات الخارجية التي تسعى إلى زعزعة الأمن والاستقرار خاصة تلك القادمة من قوى إقليمية مثل إيران وإسرائيل وحليفتها ابوظبي.
▀ الشراكة الاقتصادية: من التنافس المحتمل إلى التكامل الاستراتيجي المنشود
على الرغم من التاريخ الطويل الذي شابته بعض التوترات الاقتصادية والنزاعات الحدودية بين إرتريا وجيبوتي لاسيما الخلاف الذي وقع حول منطقة رأس دميرة وجزيرة دميرة على المدخل الجنوبي للبحر الأحمر المتنازع عليها إلا أن التوسع السريع لنفوذ المستثمرين الدوليين الباحثين عن موانئ مستقرة وآمنة على ضفاف البحر الأحمر يفتح الباب أمام صياغة رؤية جديدة للعلاقات الاقتصادية تقوم على مبادئ التكامل لا الإقصاء.
ومن خلال توزيع الأدوار الاستراتيجي بين موانئ عصب ومصوع الإرترية وموانئ جيبوتي الحيوية وتقديم الدعم المصري اللازم من خلال شركات الملاحة والطاقة الوطنية وتأمين التمويل الخليجي وخاصة السعودية الذي يتقاطع مع أهداف الاستقرار الإقليمي يمكن خلق مشروعات استراتيجية مشتركة تدعم حركة التجارة العالمية وتعزز من مظاهر التداخل والاندماج الإقليمي.
▀ تحالف استراتيجي متقاطع المصالح: إعادة التشكل ضمن نظام إقليمي جديد
على الصعيد السياسي تواجه كل من جيبوتي وإرتريا ضغوطاً داخلية وخارجية مشتركة خاصة من جانب إثيوبيا التي تخوض نزاعاً مع مصر حول قضايا الأمن المائي واستقرار منطقة البحر الأحمر. وتخلق هذه المصالح المتداخلة أرضية خصبة لإنشاء تحالف إقليمي ثلاثي الأطراف يضم مصر وجيبوتي وإرتريا تحالف قادر على إعادة رسم ملامح الديناميكيات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي.
مثل هذا التحالف الاستراتيجي لا يستهدف استبعاد أي طرف آخر بل يمكن أن يشكل نواة صلبة لاستقطاب أطراف إقليمية إضافية مثل السودان والسعودية في سياق توسعة التحالف الثلاثي الذي يضم ارتريا ومصر والصومال ضمن بنية أمنية إقليمية متكاملة في منطقة البحر الأحمر الأمر الذي من شأنه تعزيز العمق الاستراتيجي للقاهرة ومنح كل من جيبوتي وأسمرة دوراً أكثر فاعلية في صياغة مستقبل المنطقة.
أمن البحر الأحمر والتكامل الاقتصادي والتحالفات الخارجية
إلى جانب الأبعاد الإرترية والإثيوبية تضمنت زيارة الرئيس السيسي إلى جيبوتي أيضاً إشارات ذات دلالة تتعلق بالأوضاع في السودان والصومال وأهمية تعزيز أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب الاستراتيجي في مواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة ومخاطر القرصنة وعدم الاستقرار الإقليمي. كما حملت الزيارة بعداً اقتصادياً هاماً تجسد في إطلاق مجلس تجاري مشترك وتفعيل مبادرة مصرفية تهدف القاهرة من خلالهما إلى ترك بصمة تنموية ملموسة في جيبوتي التي تمثل ساحة تنافس بين المصالح التجارية الصينية والتركية المتنامية.
وعلى المستوى الدولي تبرز مفارقة التوافق الاستراتيجي بين البلدين عبر دعم مصر لمرشح جيبوتي لرئاسة مفوضية الاتحاد الأفريقي في مقابل دعم جيبوتي لترشيح مصر في المحافل الدولية بما يعكس تموضعاً تكتيكياً بينهما في ظل التنافس العالمي المحتدم على النفوذ في منطقة البحر الأحمر ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى.
الخلاصة: تقاطعات الجغرافيا السياسية وإمكانات الإحياء الإقليمي الاستراتيجي
في نهاية المطاف ينبغي النظر إلى زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي ضمن سياق أوسع لإعادة التموضع الجيوسياسي الاستراتيجي في منطقة القرن الأفريقي والتي باتت تشكّل امتداداً لا غنى عنه لمعادلة الأمن القومي المصري في ظل التنافس المتصاعد على الموانئ الحيوية والممرات البحرية وتعقّد الاصطفافات الإقليمية والدولية بوتيرة متسارعة.
وفي هذا السياق المتحوّل تبرز إرتريا—بحكم موقعها الجيوسياسي الفريد—كعنصر حاسم محتمل في أي معادلة إقليمية جديدة تستهدف ترسيخ الاستقرار وإعادة تشكيل توازنات القوى. غير أن المأزق الحقيقي يكمن في الفشل المزمن للنظام الإرتري في تحويل هذا الموقع الاستثنائي إلى نفوذ بنّاء يخدم المصالح الوطنية والإقليمية على حد سواء. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود تبنّت أسمرا مساراً انعزالياً قائماً على افتعال الأزمات والانخراط في مغامرات غير محسوبة مع دول الجوار وهو ما أضاع فرصاً تاريخية لإعادة تعريف دور إرتريا كلاعب إقليمي محوري.
وبدلاً من الانخراط في مبادرات تنموية وتكاملية كان من شأنها تعزيز موقعها وفتح آفاق جديدة لدورها استمر النظام الإرتري في التمادي على نهج عدمي يثقل كاهل الداخل بالقمع والإنهاك ويزعزع استقرار محيطه من خلال ممارسات ارتجالية تفتقر إلى الرؤية الاستراتيجية. وهو ما يطرح تساؤلات مشروعة حول قدرة هذا النظام—أو حتى رغبته—في الانخراط الجاد ضمن أطر إقليمية حقيقية لتحقيق الاستقرار وإرساء قواعد توازن مستدام.
وفي ظل هذا الواقع فهل تراهن القاهرة حقاً على إمكانية دمج النظام في أسمرا في مشروع استقرار إقليمي أم أنها تسعى فقط لاحتوائه وتحييده ضمن موازين القوى المتحركة؟