تحليلات سياسية

بين أسمرا والخرطوم: البرهان في مهمة ما بعد النصر وسط حسابات معقدة

بقلم الاستاذ: إبراهيم قارو

في منعطف سياسي عابر للحدود الجغرافية يعكس تحولات بنيوية في موازين القوى بمنطقة القرن الافريقي وتكشف عن تحوّل موازين القوة داخلياً وإقليمياً وصلت طائرة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى أسمرا يوم الخميس الموافق العاشر من هذا الشهر ابريل الجاري في زيارة مفاجئة تبدو في ظاهرها بروتوكولية لكنها في جوهرها تمثل فصلاً جديداً في إدارة الخرطوم لعلاقاتها الإقليمية خصوصاً مع الجارة الشرقية التي لطالما لعبت أدواراً معقدة على مسرح شرق السودان.

فالزيارة تأتي في أعقاب إعلان الجيش السوداني عن استعادة السيطرة على قلب العاصمة الخرطوم وطرد قوات الدعم السريع من القصر الجمهوري وهي لحظة ذات دلالة كبيرة أراد البرهان أن يترجمها سياسياً وإقليمياً ليؤكد أن ميزان القوة قد بدأ يميل لصالح المؤسسة العسكرية.

لكن في المقابل فإن اختيار أسمرا كنقطة أولى بعد هذا التحول الميداني ليس مجرد صدفة، بل هو إشارة استراتيجية لمدى التقارب بين الخرطوم وأسمرا ولمحاولة إعادة ضبط الإيقاع الإقليمي في ظل حرب معقّدة تهدد تماسك الدولة السودانية ذاتها.

تحمل الزيارة دلالات متعددة فهي تعبير عن شكر سياسي وأمني لإرتريا على دعمها المعلن وغير المعلن للجيش خلال فترة النزاع ولكنها أيضاً في جوهرها تجسيد لرغبة الخرطوم في استجلاء موقف اسمرا من المرحلة القادمة .. فالسودان ما بعد معركة الخرطوم يختلف جوهرياً عن السودان الذي شهد حرب المدن الطويلة حيث تتبلور خرائط نفوذ جديدة وتنامى المطالب الداخلية.

يعرف السلوك السياسي للنظام الإرتري تجاه السودان لا سيما في شرق البلاد بالضبابية والتعقيد فقبل اندلاع الحرب لعبت أسمرا دوراً مؤثراً في دعم جماعات ومليشيات محلية تم تدريبها وتسليحها في سياقات مبهمة بدت في ظاهرها ذات بعد أمني لمواجهة التهديدات الحدودية لكنها في عمقها تعكس حسابات أسمرا الاستراتيجية في شرق السودان الذي تعتبره منطقة نفوذ حيوي لأمنها القومي.

وقد أظهرت تطورات الحرب أن بعض هذه التشكيلات لعبت أدواراً ميدانية مساندة للجيش السوداني في معركة استعادة الخرطوم ما يفتح الباب الآن أمام تساؤل محوري:

  • ما هو مستقبل هذه المليشيات بعد انتهاء المعارك القتالية الكبرى؟
  •  وهل سيتم إدماجها في الهيكل النظامي للدولة؟
  • أم أنها ستتحول إلى أدوات ضغط سياسي وأمني تفرض شروطها بناءً على ما تعتبره مساهمة في النصر العسكري؟

ومن هذا المنظور يمكن فهم جانب خفي من زيارة البرهان فالرجل لا يذهب لتقديم الشكر فحسب بل ليعيد ترسيم حدود العلاقة مع أسمرا وليطمئن بدوره إلى موقف النظام الإرتري على ضوء ما بعد تحرير الخرطوم خاصة وأن لإرتريا تجربة مريرة مع أديس أبابا في حرب تقراي حيث ساهمت في المعركة إلى جانب حكومة آبي أحمد لتحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بأمنها القومي لكن نتائج اتفاق بريتوريا قوضت تلك المكاسب وأوجدت توتراً كامناً سرعان ما ظهر للعلن بعد تبادل الطرفين الاتهامات بزعزعة الأمن. ومن هنا قد تحاول أسمرا ألا تكرر الخطأ ذاته وأن تستثمر مبكراً في ترتيبات ما بعد الحرب السودانية بما يحقق لها دوراً وشراكة أكثر توازناً مع الخرطوم.

عبدالفتاح البرهان والرئيس اسياس افورقي
عبدالفتاح البرهان والرئيس اسياس افورقي

كذلك تكتسب زيارة البرهان طابعاً استباقياً أيضاً فهي تنطوي على إعادة بناء تحالف تقليدي (الخرطوم–أسمرا) يمكن استخدامه لموازنة النفوذ الإثيوبي. وربما تسعى الخرطوم من خلالها إلى إعادة تدوير التحالفات وفق رؤية جديدة تدمج الأمن الإقليمي بالترتيبات السياسية الداخلية. فالخرطوم التي خرجت من أتون الحرب لم يعد في إمكانها تحمل ازدواجية الخطاب الدبلوماسي أو هشاشة الجبهات، خصوصا في الشرق الذي بات اليوم ليس فقط ممرا استراتيجيا بل أيضاً مخزوناً بشرياً وعسكرياً ستتحدد ملامح المرحلة المقبلة بمدى قدرة المركز على احتوائه أو التفاهم معه.

إجمالاً تعكس هذه الزيارة مساعي متوازنة فمن جهتها تسعي الخرطوم ترسيخ التحولات الميدانية عسكرياً عبر تحصين علاقاتها مع أطراف إقليمية فاعلة ومن جانبها تستشرف أسمرا مآلات المشهد السوداني وتحاول التموضع في خارطة ما بعد الحرب. وبين هذين المسارين يبقى الباب مفتوحاً أمام سيناريوهات متعددة من بينها تعزيز التعاون الأمني والعسكري أو فتح قنوات أوسع للتنسيق السياسي وربما –وهو الأخطر– تحديد أدوار المليشيات في شرق السودان كفاعلً غير رسمي له حساباته ومطالبه.

ختاماً:  لا يمكن اختزال زيارة البرهان إلى أسمرا في بعدها الرمزي أو البروتوكولي، فهي تندرج ضمن لحظة إعادة تشكيل كبرى في السودان والمنطقة حيث تتحرك الدول الفاعلة على ساحة إقليمية معقدة تحكمها المصالح والذاكرة والتجارب السابقة. فالخرطوم الجديدة – بواقعها العسكري والسياسي – تدرك أن خوض معارك ما بعد الحرب أكثر تعقيداً من المعركة ذاتها. ولذلك تسعى إلى تهيئة بيئة إقليمية داعمة تعزز استقرارها دون أن تتحول إلى عبء سياسي أو أمني.

كما أن إدارة المليشيات المحلية التي قاتلت في صفوف الجيش لن تكون مهمة تقنية فحسب بل تتطلب هندسة سياسية تستوعب التناقضات وتوزّع المكاسب بحذر حتى لا يتحول النصر إلى لحظة انقسام داخلي ومن خلف هذا المشهد تقف إرتريا كمرآة لمصالحها تقيم المكاسب والخسائر بينما تراقب إثيوبيا بانتباه وتتحضر لإعادة رسم خطوط نفوذها في شرق السودان. وبين ثلاثي الجغرافيا والجيش والسياسة، ستكون الأسابيع القادمة حاسمة في تحديد ما إذا كانت الزيارة بداية ترتيب مستقر أم فصلًا جديداً من الصراع الخفي.

بقلم الاستاذ: إبراهيم قارو

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى